سورة الأنفال - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}
{وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم اللقاء ووقته {دُبُرَهُ} فضلًا عن الفرار.
وقرأ الحسن بسكون الباء {إِلاَّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ} أي تاركًا موقفه إلى موقف أصلح للقتال منه، أو متوجهًا إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء، أو مستطردًا يريد الكر كما روى عن ابن جبير رضي الله تعالى عنه. ومن كلامهم:
نفر ثم نكر *** والحرب كر وفر
وقد يصير ذلك من خدع الحرب ومكايدها، وجاء «الحرب خدعة» وأصل التحرف على ما في مجمع البيان الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف، ومنه الاحتراف وهو أن يقصد جهة من الأسباب طالبًا فيها رزقه {أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ} أي منحازًا إلى جماعة أخرى من المؤمنين ومنضمًا إليهم وملحقًا بهم ليقاتل معهم العدو، والفئة القطعة من الناس، ويقال: فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته وما ألطف التعبير بالفئة هنا، واعتبر بعضهم كون الفئة قريبة للمتحيز ليستعين بهم، وكأنه مبني على المتعارف وكم يعتبر ذلك آخرون اعتبار للمفهوم اللغوي.
ويؤيده ما أخرجه أحمد. وابن ماجه. وأبو داود. والترمذي وحسنه. والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا: كيف نلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفارون فقال: لا بل أنتم العكارون فقبلنا يده فقال عليه الصلاة والسلام: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ثم قرأ {إِلاَّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ} والعكارون الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها.
وا روى أنه انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا فئتك، وبعضهم يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: «أنتم العكارون» على تسليتهم وتطييب قلوبهم، وحمل الكلام كله في الخبرين على ذلك بعيد. نعم إن ظاهرهما يستدعي أن لا يكاد يوجد فار من الزحف، ووزن متحيز متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوز لأنه من حاز يحوز وإلى هذا ذهب الزمخشري ومن تبعه، وتعقب بأن الإمام المرزوقي ذكر أن تدير تفعل مع أنه واوي نظر إلى شيوع ديار، وعليه فيجوز أن يكون تحيز تفعل نظرًا إلى شيوخ الحيز بالياء، فلهذا لم يجيء تدور وتحوز، وذكر ابن جني أن ما قاله هذا الإمام هو الحق وأنهم قد يعدون المنقلبون كالأصلي ويجرون عليه أحكامه كثيرًا، لكن في دعواه نفي تحوز نظر، فإن أهل اللغة قالوا: تحوز وتحيز كما يدل عليه ما في القاموس، وقال ابن قتيبة: تحوز تفعل وتحيز تفيعل، وهذه المادة في كلامهم تتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز بفتح الحاء وتشديد الياء، وقد وهم فيه من وهم، وهو فناء الدار ومرافقها، ثم قيل لكل ناحية فالمستقر في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز وقد يطلق عندهم على ما يحيط به حيز موجود، والمتكلمون يريدون به الأعم وهو كل ما أشير إليه فالعالم كله متحيز ونصب الوصفين على الحالية وإلا ليست عاملة ولا واسطة في العمل وهو معنى قولهم: لغو وكانت كذلك لأنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ولولا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على الخلاف المشهور وشرط الاستثناء المفرغ أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا ومنه ما نحن فيه ويصح أن يكون من الأول باعتبار أن يولي عنى لا يقبل على القتال، ونظير ذلك ما قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام:«العالم هلكى إلا العالمون» الحديث.
وجوز أن يكون على الاستثناء من المولين، أي من يولهم دبره إلا رجلًا منهم متحرفًا فالقتال أو متحيزًا {فَقَدْ بَاء} أي رجع {بِغَضَبٍ} عظيم لا يقادر قدره، وحاصله المولون إلا المتحرفين والمتحيزين لهم ما ذكر {مِنَ الله} صفة غضب مؤكدة لفخامته أي بغضب كائن منه تعالى شأنه {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه من مأوى ينجيه من القتل {وَبِئْسَ المصير} جهنم ولا يخفى ما في إيقاع البوء في موقع جواب الشرط الذي هو التولية مقرونًا بذكر المأوى والمصير من الجزالة التي لا مزيد عليها، وفي الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس الت يحرم الله تعالى إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف» وجاء عده في الكبائر في غير ما حديث قالوا: وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ} الآية أما إذا كان أكثر فيجوز الفرار فالآية ليست باقية على عمومها وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
وأخرج الشافعي. وابن أبي شيبة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال من فر من ثلاثة فلم يفرو من فر من اثنين فقد فر، وسمي هذا التخصيص نسخًا وهو المروي عن أبي رباح. وعن محمد بن الحسن أن المسلمين إذا كانوا اثني عشر ألفاف لم يجز الفرار، والظاهر أنه لا يجوز أصلًا لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث، وروى عن عمر.
وأبي سعيد الخدري. وأبي نضرة. والحسن رضي الله تعالى عنهما وهي رواية عن الحبر أيضًا أن الحكم مخصوص بأهل بدر، وقال آخرون: إن ذلك مخصوص بما ذكر وبجيش فيه النبي صلى الله عليه وسلم وعللوا ذلك بأن وقعة بدر أول جهاد وقع في الإسلام ولذا تهيبوه ولو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة ولا ينافيه أنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها وأما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معهم فلأن الله تعالى ناصهر، وأنت تعلم أنه كان في المدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير وظنوها العير فقط وأن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أن لله تعالى ناصره كان فئة لهم، وقال: بعضهم إن الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر لا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط وهو مستقبل فالآية وإن كانت نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فذلك اليوم فرد من أفراد يوم اللقاء فيكون عامًا فيه لا خاصًا به وإن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم بده {وَيَوْمَئِذٍ} إشارة إلى يوم اللقاء ودفع بأن مراد أولئك القائلين إنها نزلت يوم بدر وقد قامت قرينة على تخصيصها ولا بعد فيه اه، وعندي أن السورة إنما نزلت بعد تمام القتال ولا دليل على نزول هذه الآية قبله والتخصيص المذكور مما لا يقوم دليل على سياق ويد الله مع الجماعة والله تعالى أعلم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال} إذ لم يرتفع عنهم إذ ذاك حجاب الأفعال {قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول} أي حكمها مختص بالله تعالى حقيقة وبالرسول مظهرية {فاتقوا الله} بالاجتناب عن رؤية الأفعال برؤية فعل الله تعالى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} حو صفات نفوسكم التي هي منشأ صدوركم ما يوجب التنازع والتخالف {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بفنائها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية الصادقة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] الايمان الحقيقي {إِنَّمَا المؤمنون} كذلك {الذين إِذَا ذُكِرَ الله} لاحظة عظمته تعالى وكبريائه وسائر صفاته وهو ذكر القلب وذكره سبحانه وتعالى بالأفعال ذكر النفس {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي خافت لإشراق أنوار تجليات تلك الصفات عليها {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله} بالترقي من مقام العلم إلى العين.
وقد جاء أن الله تعالى تجلى لعباده في كلامه لو يعلمون {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] إذ لا يرون فعلًا لغيره تعالى، وذكر بعض أهل العلم أنه سبحانه وتعالى نبه أولًا: بقوله عز قائلًا: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} على بدء حال المريد لأن قلبه لم يقو على تحمل التجليات في المبدأ فيحصل له الوجه كضرمة السعفة ويقشعر لذلك جلده وترتعد فرائصه، وأما المنتهى فقلما يعرض له ذلك لما أنه قد قوى قلبه على تحمل التجليات وألفها فلا يتزلزل لها ولا يتغير، وعلى هذا حمل السهر وردى قدس سره ما روى عن الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلًا يبكي عند قراءة القرآن فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب حيث أراد حتى قويت القلوب إذ أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير، ونبه ثانيًا: سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا: {زَادَتْهُمْ إيمانا} على أخذ المريد في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال، وثالثًا: بقوله عز شأنه {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} على صعوده في الدرجات والمقامات، وفي تقديم المعمول إيذان بالتبري عن الحول والقوة والتفويض الكامل وقطع النظر عما سواه تعالى، وفي صيغة المضارع تلويح إلى استيعاب مراتب التوكل كلها، وهو كما قال العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن يفوق الأمر كله إلى مالكه ويعول على وكالته، وهو من أصعب المنازل، وهو دليل العبودية التي هي تاج الفخر عند الأحرار، والظاهر أن الخوف الذي هو خوف الجلال والعظمة يتصف به الكاملون أيضاف ولا يزول عنهم أصلًا وهذا بخلاف خوف العقاب فإنه يزول، وإلى ذلك الإشارة بما شاع في الأثر:«نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} أي صلاة الحضور القلبي وهي المعراج المعنوي إلى مقام القرب {وَمِمَّا رزقناهم} من العلوم التي حصلت لهم بالسير {يُنفِقُونَ} [الأنفال: 3] {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقًّا} لأنهم الذي ظهرت فيهم الصفات الحقة وغدوا مرايا لها ومن هنا قيل: المؤمن مرآة المؤمن {لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ} من مراتب الصفات وروضات جنات القلب {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوب الأفعال {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4] من ثمرات أشعار التجليات الصفاتية، وق لبعض العارفين: المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله تعالى والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته وهو قريب مما ذكرنا {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} متلبسًا {بالحق وَإِنَّ فَرِيقًا مّنَ المؤمنين} وهم المحتجبون برؤية الأفعال {لَكَِّرِهُونَ} [الأنفال: 5] أي حالهم في تلك الحال كحالهم في هذه الحال {يجادلونك فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] لك أولهم بالمعجزات {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بالبراءة عن الحول والقوة والانسلاخ عن ملابس الأفعال والصفات النفسية {فاستجاب لَكُمْ} عند ذلك {أَنّي مُمِدُّكُمْ} من عالم الملكوت لمشابهة قلوبكم إياه حينئذ {بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة} أي القوى السماوية وروحانياتها {مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] لملائكة أخرى وهو إجمال ما في آل عمران {وَمَا جَعَلَهُ الله} [آل عمران: 124، 125] أي ما جعل الله تعالى الإمداد {إِلاَّ بشرى} أي بشارة لكم بالنصر {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} لما فيها من اتصالها بما يناسبها {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} والأسباب في الحقيقة ملغاة {أَنَّ الله عَزِيزٌ} قوي على النصر من غير سبب{حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] يفعله على مقتضى الحكمة وقد اقتضت فعله على الوجه المذكور {إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس} وهو هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة {أَمَنَةً مّنْهُ} أي أمنا من عنده سبحانه وتعالى: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء} أي سماء الروح {مَاء} وهو ماء علم اليقين {لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} عن حدث هواجش الوهم وجنابة حديث النفس {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} وسوسته وتخويفه {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي يقويها بقوة اليقين ويسكن جأشكم {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} [الأنفال: 11] إذ الشجاعة وثبات الأقدام في المخاوف من ثمرات قوة اليقين {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملئكة أَنّي مَعَكُمْ} أي يمد الملكوت بالجبروت {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} لانقطاع المدد عنهم واستيلاء قتام الوهم عليهم {فاضربوا فَوْقَ} لئلا يرفعوا رأسًا {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] لئلا يقدروا على المدافعة، وبعضهم جعل الإشارة في الآيات نفسية والخطاب فيها حسا يليق له الخطاب من المرشد والسالك مثلًا، ولكل مقام مقال، وفي تأويل النيسابوري نبذة من ذلك فارجع إليه إن أردته وما ذكرناه يكفي لغرضنا وهو عدم إخلاء كتابنا من كلمات القوم ولا نتقيد بآفاقية أو أنفسية والله تعالى الموفق للرشاد، ثم إنه تعالى عاد كلامه إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأوالها وتقرير ما سبق، حيث قال سبحانه:


{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} الخطاب للمؤمنين، والفاء قيل واقعة في جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمر بالتثبيت وغير ذلك، كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم {ولكن الله قَتَلَهُمْ} بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. وجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم على معنى فاعلموا أو فاخبركم أنكم لم تقتلوهم، وقيل: التقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم لما روى أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون: قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت. وقال أبو حيان: ليست هذه الفاء جواب شرط محذوف كما زعموا وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال سبحانه: {فاضربوا فَوْقَ الاعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] وكان امتثال ما أمر به سببًا للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأن الأقدار عليه والخلق له إنما هو لله تعالى، قال السفاقسي: وهذا أولى من دعوى الحذف. وقال ابن هشام: إن الجواب المنفي لا تدخل عليه الفاء.
ومن هنا مع كون الكلام على نفي الفاعل دون الفعل كما قيل ذهب الزمخشري إلى اسمية الجملة حيث قدر المبتدأ أي فأنتم لم تقتلوهم، وجعل بعضهم المذكور علة الجزاء أقيمت مقامه وقال: إن الأصل إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به لأنكم لم تقتلوهم ونظائره كثيرة، ولعل كلام أبي حيان كما قال السفاقسي أولى، والخطاب في قوله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} خطاب لنبيه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين وهو إشارة إلى رميه صلى الله عليه وسلم بالحصى. يوم بدر وما كان منه. فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: لما طلعت قريش من العقنقل: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها وجوههم فقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وجاء من عدة طرق ذكرها الحافظ ابن حجر أن هذا الرمي كان يوم بدر، وزعم الطيبي أنه لم يكن إلا يوم حنين وأن أئمة الحديث لم يذكر أحد منهم أنه كان يوم بدر وهو كما قال الحافظ السيوطي ناشيء من قلة الاطلاع فإنه عليه الرحمة لم يبلغ درجة الحفاظ ومنتهى نظره الكتب الست ومسند أحمد ومسند الدارمي وإلا فقد ذكر المحدثون أن الرمي قد وقع في اليومين فنفى وقوعه في يوم بدر مما لا ينبغي، وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدًا، وما ذكره في تقريب ذلك ليس بشيء كما لا يخفى على من راجعه وأنصف.
ويرد نحو هذا على ما روى عن الزهري. وسعيد بن المسيب من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة والسلام يوم أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة والسلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأخروا» فاستأخروا فأخذ عليه الصلاة والسلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعًا من أضلاعه، وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلًا وهو يقول: قتلني محمد فطفقوا يقولون: لا بأس عليك فقال: والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق.
وما أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق وذلك في خيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة فقال عليه الصلاة والسلام: «جيئوني بقوس غيرها» فجاءوه بقوس كبداء فرمي صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية، والحق المعول عليه هو الأول، وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفيًا وإثباتًا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك، والمنعنى على ما قيل: وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعًا، واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها قال الإمام: أثبت سبحانه كونه صلى الله عليه وسلم راميًا ونفي كونه راميًا فوجب حمله على أنه عليه الصلاة والسلام رمى كسبًا والله تعالى رمى خلقًا، وقال ابن المنير: إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألاتراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار فلما أثبت سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة، فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد، فإن قلت: إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرومي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل أُجِيبُ بأن الصوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتى بنفيه مطلقًا كإبثاته، وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر، ولذا قال في شرح المفتاح النفي والإثبات واردان على شيء واحد باعتبارين فالمنفي هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة، والمشهور حمل الرمي في حيز الاستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم، واعترض المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طوق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من افراده وأجيب بأنا لا ندعي إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسا تقتضيه القاعدة، وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجًا عن طوق البشر إنما جاء من خارج، ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله، ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن ادعاه فقد كابر.
واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير {رمى} في حيز الاستدراك بخلق الرمي وتفسير {رَمَيْتَ} في حيز النفي بخلقت الرمي، فحاصل المعنى حينئذ وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة ولكن الله سبحانه خلقه، ويلزم منه صحة أن يقال مثلًا: ما قمت إذ قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك وأجيب بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف. واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيق إذ رميت مجازًا ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفى الرمي حقيقة حين إثباته مجازًا من أجل البديهيات فأي فائدة في الإخبار بذلك، قيل: ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويؤول ذلك إلى مباشرته له من غير خلق، فيكون المعنى وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى وهو كما ترى، وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية والاستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما، ولعل الجواب عنها متيسر لأهله.
وقال بعض المحققين: إنه أثبت له صلى الله عليه وسلم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة والسلام ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلى الله عليه وسلم لا مدخل له فيه، فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقي غير مقصود، ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة لأن جميع أفعال العباد باشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى وله وجه وإن قيل عليه ما قيل وأنا أقول: إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن لا أنه لا قدرة له أصلًا كما يقول الجبرية، ولا أن له قدرة غير مؤثرة كماهو المشهور من مذهب الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة، وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجرًا، وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفًا على الاستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلًا يبقى المطلب بلا دليل.
فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأسًا في أن يكون الرمي المثبت له صلى الله عليه وسلم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب، وإثبات ذلك عليه الصلاة والسلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلى الله عليه وسلم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجًا عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة، كأنه قيل: إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة، وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب، فالرمي المنفي أولًا والمثبت أخيرًا غير المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل: وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم، وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن اتساع: وقرئ {ولكن الله} بالتخفيف ورفع الاسم الجليل في المحلين {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} أي ليعظيهم سبحانه من عنده إعطاء جميلًا غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء عنى العطاء كما في قول زهير:
جزى الله بالإحساب ما فعلا بكم *** فأبلاهما خير البلاء الذي يبلى
واختار بعضهم تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال: أبلى بلاء حسنًا أي قاتل قتالًا شديدًا وصبر صبرًا عظيمًا، سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره، واللام إما للتعليل متعلق حذوف متأخر فالواو إعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعًا، وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمي ليمحق الكافرين وليبلي الخ. وقوله تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ} أي لدعائهم واستغائتهم أو لكل مسموع ويدخل فيها ما ذكر {عَلِيمٌ} أي بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضًا تعليل للحكم {ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وقوله سبحانه وتعالى:


{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}
معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم، وقيل: المشار إليه القتل أو الرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى: {وَأَنَّ الله} إلخ من قبيل عطف البيان، وقيل: المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر. وجوز جعل اسم الاشارة مبتدأ محذوف الخبر وجعله منصوباف بفعل مقدر.
وقرأ ابن كثير. ونافع. وأبو بكر {مُوهِنُ} بالتشديد ونصب كيد. وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والاضافة وقرأ الباقون بالتخفيف والنصب.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9